خطر ببالك أخي القارئ معنى هذا العنوان (العيادة القرائية) وهل خطر ببالك أن تزور تلك العيادة يوما طالبا وصفة في فنون القراءة أو مشاكلها وما أكثر ما يحـيط بها من تفاصيل تبــدو حتى اليوم متشابكة في ذهن الملايين من أبناء العرب؟
هل دار بخلدك أننا يمكن أن نتبنى فكرة متطورة إلى هذا الحد فنفتتح على سبيل المثال عيادة قرائية بل عيادات قرائية ونطالب من يشعر أنه بحاجة لاستشارة في مجال القراءة أن يزور تلك العيادة ليأخذ الوصفة المناسبة ويتعرف على خطوات الحل لمشكلته تلك؟
ثم ما الداعي أساسا لعيادة قرائية، ولماذا البحث عن فكرة من هذا النوع الغريب؟ وهل انتهت أوجاعنا وتعافينا من كل أمراضنا حتى نبحث لنا عن مرض جديد ثم نبحث عن طبيب يداوي ذلك الوجع؟
هل باتت القراءة لغزا محيرا، أم أمرا بالغ التعقيد يحتاج لعيادات ومراكز للاستشارات؟
وهل هذه العيادات هي إفراز لمجتمع مرفه، أم هي ضرورة ملحة؟
هل هي أسلوب جديد للتعبير عن لغة العصر المترفة، أم أنها موقف حضاري وسلوك رفيع المستوى ينم عن وعي بالغ بخطورة الجهل في موضوع القراءة، وما يحيط بها من تفاصيل؟
هل يعني العرب اليوم بالقراءة لكي نطور لهم أدوات جديدة تساعدهم على مزيد من الإتقان، أم أنهم عازفون عن القراءة، وبحاجة لأيدي خارجية تساعدهم على الوقوف من جديد ورفع رؤوسهم عاليا، والتحليق بنتاجهم العلمي فوق أرجاء الأرض؟
أسئلة كثيرة وعلامات استفهام أثارها عنوان هذا الموضوع الذي يتناول علاقتنا نحن العرب بالقراءة.
لكني قبل أن أنحو نحو الطرح التقليدي الذي ألفناه مرات ومرات في عرض أزمتنا نحو القراءة دعوني أولا أعرض لكم تجربتي الشخصية التي مررت بها قبل مدة، ووجدتها غاية في الثراء وتستحق فعلا التأمل فيها وفي دلالاتها ومعانيها.
العيادة القرائية هي فكرة مبتكرة وحديثة نوعا ما في عالمنا العربي وإن كانت لها جذورها وتقاليدها الصحيحة في البلاد الصناعية وتحديدا في الولايات المتحدة الأميركية التي قطعت خطوات واسعة في تجربة العيادات القرائية.
بمعرض "إكسبو" الشارقة، كانت لي تجربة شائقة مررت بها مؤخرا ولأنها كانت تجربة تحمل في طياتها الكثير من التفاصيل فقد وجدت من المناسب إشراككم قراءنا الكرام بها وإطلاعكم على جوانب منها.
التجربة القرائية فكرة طبقت للمرة الثانية من قبل المجلس الأعلى للأسرة بإمارة الشارقة، وهي فعالية ضمن عدد من الفعاليات المتنوعة بمهرجان القراءة الثاني الذي أقيم للسنة الثانية هذا العام.
طلب مني المشاركة في إحدى هذه الفعاليات، والتي سميت بالعيادة القرائية ليتاح للجمهور من شتى الفئات الحضور للعيادة وتقديم ما لديهم من أسئلة تدور حول هذا الموضوع.
كنت قد عرفت مسبقا أن أغلب جمهوري سيكون من طالبات مراكز الناشئة اللواتي سيمثلن السواد الأعظم للزبائن المتكررين في أيام المهرجان.
ولأن أكثر جمهوري هم من البالغين فقد تواردت الأسئلة على ذهني حول طبيعة الأجواء التي يمكن أن تسود بيني وبين هؤلاء الفتيات.
لقد خطر ببالي كل شيء إلا أن يكون من بين الفئة التي تجلس على الكراسي المصفوفة أمامي طالبات في المرحلة التمهيدية بل وقبلها، فهذا شيء لم أكن قد مررت به من قبل وحدث لم أتصور وقوعه!!
طالبة التمهيدي ترفع هامتها تطلب المشاركة والإدلاء بالرأي.
في منتصف الجولة في العيادة القرائية، تفاجأت بدخول مجموعة صغيرة من الأجسام اللطيفة والمتناهية في الصغر والتي أخذت مكانها سريعا، وبادرتني بالجلوس قبل أن أطلب ذلك منها.
شعرت في البداية بالصدمة فما لي ولهذه الأجسام الصغيرة التي بالكاد يصل طول قامتها إلى ثلاثة أو أربعة مساطر!! ثم هون علي وخفف من وطأة المفاجأة والشعور بالدهشة انه بالقرب مني مكان فسيح يعج بمختلف أنواع اللهو البريء والأنشطة الترفيهية الموجهة للأطفال والناشئة.
ما حدث بعد ذلك كان مثيرا للغاية حيث أني التفت إلى إحدى المشرفات وسألتها هل هذه الزهور مدعوة للمشاركة معنا؟ فوجدتها قد أخذتها الحيرة هي أيضا ونالها ما نالني من شعور بأنني اقترب من ورطة حقيقية، بعد أن خرجت أفواج كانت توقعات النجاح معهن أفضل بكثير من التوقعات المبدئية مع هذه الشريحة العمرية الخاصة.
ارتسمت على وجهي ابتسامة من نوع خاص، ودعوت سرا أن انجح في إيصال بعض الأفكار الجيدة لهذه الوجوه البريئة التي اختارت غرفتي واطمأنت بالقرب من مكاني تاركة غرفا بها العاب ودمى وصوراً طريفة يعج بها المكان من حولنا.
لم يطل بي الوقت في التفكير بجمهوري المميز إذ سرعان ما دخل المكان فتيات أكبر في السن من هؤلاء الجالسات بثقة حسدتهن عليها، ودونما أي تعليق جلسن في الصف الذي على اليمين بينما جلست الفتيات الأصغر سنا على يساري واسترحن في مكانهن مطمئنات.
حمدت الله على إنقاذه لي بحضور طالبات الصف الأول الابتدائي فهؤلاء على الأقل يمكن إجراء حوار منطقي معهن به بعض التفاصيل، وحييت الجميع لأبدأ بعد التحية في إجراء حوارا مرتجلا صنعته اللحظة الماثلة أكثر من أن يكون مخططا له من قبل.
بعد معاينة جمهوري الخاص، وجدت بأيدي بعضهن أكياسا صغيرة عليها صور مهرجان القراءة فقلت إذن لقد أنهيتن جولة في معرض الكتاب المرافق للمهرجان. فأجبن نعم.
طلبت من الأولى على يميني، وكان اسمها نوف، أن تأذن لي في تفقد محتويات كيسها فأبدت سرورا بالغا، وسلمتني إياه على عجل فبدأت افرغ محتويات الكيس واضعه على الطاولة أمام جمهوري المتحمس لأي تعليق يصدر مني.
في الكيس الأول، وجدنا ما يلي صور لاصقة لمجموعة من بطلات الكرتون الغربي بالإضافة لشريط مدمج به أغاني للأطفال، وبعد السؤال عن المبلغ الإجمالي لهذه الأغراض كانت الإجابة عشرين درهما
الطالبة الثانية كانت في الصف الأول الابتدائي أيضا، ووجدت بداخل كيسها الذي أفرغته على الطاولة أمام الجميع ثلاث قصص عربية وثلاث أشرطة مدمجة بها أغاني للأطفال من نفس النوع بالإضافة لملصقات للحيوانات.
الكيس الثالث لطالبة بالمرحلة التمهيدية كان قريبا من الكيس الثاني إن لم يكن مطابقا له . أما الطفلة التي لم تدخل المدرسة بعد فقد اشترت كتابا سميكا بالغ الأناقة وأوراقه مقواة يدور حول حيوانات الغابة بالإضافة لملصق كبير الحجم للحيوانات.
لم تتجاوز ميزانية كل طفلة العشرين أو الثلاثين درهما وكان هذا رقما معقولا جدا لطالبات في هذا العمر الصغير.
لكن السؤال الكبير لماذا فتحت الأكياس أمامهن وماذا أريد من ذلك؟
لا يخفى على القارئ أني كنت بحاجة لمادة حوارية سهلة تتناسب والعمر الصغير لجمهوري الرائع في الوقت الذي كنت فيه حريصة على أن يستفيد كل متردد لهذه العيادة القرائية التي لن تطول مدتها عن ثلاث ساعات ولقد وجدت في الأكياس ضالتي المنشودة.
بدأت الحوار هكذا.
ما الذي يغلف عالم الطفل اليوم؟
من هم نجوم الأطفال المميزون؟ وما نوع الصور التي ترسم على الأدوات المدرسية والقرطاسية لطلابنا وطالباتنا؟
ماذا عن الحكايات الشهيرة الكرتونية والمصورة على الكتب؟
وماذا عن المبالغ التي ننفقها لشراء هذه المنتجات؟
ما هي أبرز السلبيات في بعض الكرتون المميز وما رأيكم في لبس طرزان في الفيلم الكرتوني الشهير الذي بيعت منه آلاف النسخ في وطننا العربي الكبير؟
ما رأيكم بباربي؟ وماذا عن لباسها الأوربي الذي يظهر أجزاء من جسمها نراه نحن المسلمون واجب الإخفاء.
هل لدينا أبطال كرتون مسلمي الهوية والانتماء وهل الجمال الحقيقي يجب أن يوشى بالعيون الخضراء ويطرز بالشعر الأشقر وتبرزه البشرة البيضاء؟
ماذا عن جمال الأخلاق ورونق الشخصية؟ ولماذا يحيط بالطفل العربي عالم ديزني الذي أبطاله غربيون عنا وبعيدون عن قيمنا وصفاتنا الأخلاقية؟
هل يصدق قارئ أني قد أطلقت النار على أبطال فتياتي جملة واحدة وأن الفتيات كن سعيدات كل السعادة بحوار بدا مفتوح النوافذ منطلقا نحو فكرة رئيسة وهدف ثابت فطنت إليه تلك الفئة العمرية الرائعة.
بطبيعة الحال كانت اللغة سهلة وباللهجة العامية وبالحوار وتحليل الأفكار لكن الاندماج كان سريعا والإنصات كان على أشده.
لله كم نفكر نحن الكبار بغرابة في كثير من الأحيان، وما أعجب أمرنا حين نشعر أن أفكارنا الكبيرة ستنزل ثقيلة على أدمغة الأطفال فنهاب أحيانا طرحها أمامهم ونرجئ التأجيل والتأجيل حتى يكبروا وتكبر أدمغتهم في حين أننا لا نعلم أنه لو تركت لنا بعض الحكمة وشيء من الإيمان بتميز الصغار فالخيار المؤكد أننا لن نتردد في طرح ما يتلاءم مع حياتهم ويساعدهم على التكفير المنظم والفهم العميق.
جزى الله خيرا من جعل من بين جمهوري أبناء الثلاث والأربع والخمس سنوات فقد أثلجن صدري، ورفعن عن كاهلي عبئا لطالما أثقلني، ومهمة لطالما ترددت في إنجازها بمثل تلك الصورة التي تحققت في تلك الجلسة الجميلة.
لقد كان الحوار دافئا، وكانت كلماتهن وتعليقاتهن عفوية وعميقة وتنم عن امتزاج مؤكد بالأفكار التي عرضتها عليهن. أخبرنني لاحقا بأسماء الأفلام التي يرونها، وعلقن بتمكن على الجوانب الإيجابية والسلبية لبعض ما رأوا وشاهدوا وحدثوني عن حقائبهن والقرطاسية المدرسية التي يمتلكن، وأبدين اقتناعـا بصحة الأفكار التي استمعن إليها، وبأنه لا بد من التوازن في شراء المنتجات الكرتونية التي تمعن في تقديم الصور الفاضحة.
كما أكدن أنهن فهمن الدرس جيدا ليس بالكلام اللفظي فحسب بل بالموقف بالموقف الجريء والخطورة المفاجئة التي قمن بها قبل أن ينتهي الوقت المخصص للحوار.
إذ قبل الانصراف رفعت إحداهن يدها، وقالت لكنك لم تري الصور التي خلف الحيوانات وأنا بحاجة لتعليقك على تلك الصور.
ثم تحركت من كرسيها وبيدها الصور الملونة وقلبت الصورة لتظهر لي في الخلف فتاة ذات ملامح شرقية بعض الشيء تلبس العباءة والشيلة في لقطة ثم في لقطة مصورة أخرى تظهر ساقيها وذراعيها.
كانت الإصبع الصغيرة تتحرك سريعا وهي تشير إلى الصورتين أو الثلاث التي أثارت لديها علامات تعجب وعيونها تطالبني سريعا بالتعليق على ما رأيت.
أجبتها بصوت يسمعه الجميع: "هل تعتقدن أن هناك فتاة في سنها تحتشم مرة وتتكشف أخرى؟ فأجبن: لا.
قلت إذن هذه الفتاة تعاني من ضيق الفهم حول موضوع الاحتشام، وقد كان ينبغي على من صنعها أن يجعلها بهية بحيائها، وباحتشامها!!
هززن الرؤوس مقتنعات ومؤيدات وانبرت الصديقة ابنة الأربعة أعوام تشير إلى نفس اللوحة وتقلبها بنفس الطريقة وتقول يا أستاذة أنا أيضا لدي في الخلف مثل هذه الصورة وقد فهمت مغزى الحديث الدائر.
يعلم الله أني لم أكن أتوقع أن تحمل لي العيادة القرائية هذه المفاجأة السارة فتكون من بين المترددين على العيادة طفلة عمرها أربعة أعوام تفهم في نصف ساعة ما عجز عن فهمه ملايين العرب في أعوام!!
لم تنته حكايتي مع العيادة القرائية لكني أردت أن أقدم صفحة ملأت قلبي بالثقة وأشعرتني بقيمة الثروة البشرية الكامنة في صغارنا الذين مع الأسف نغفل كثيرا عن احتوائهم والأخذ بأيديهم نحو نور المعرفة وبهاء الفهم.
أولئك الذين نجهل كيف نربيهم تربية نقدية مبكرة فنحميهم من شرور الانبهار بلوثات الغرب، وصرعاتهم الماكرة.
والسؤال الجديد: هل تم التخطيط لجمهور العيادة القرائية؟
بصراحة لم يكن هناك تخطيط بل كانت الفكرة أن يجلس الخبراء في موضوع القراءة في المكان المخصص للعيادة، وعليهم أن يستقبلوا أي زائر مهما كانت المرحلة العمرية له الأمر الذي يشعر بشيء من الحرج نتيجة عدم تحديد موضوعات مسبقة نطرحها على جمهورنا المجهول في كثير من الأحيان.
الفكرة جيدة والعفوية التي تم بها تطبيقها كانت مذهلة أيضا، بل إن عدم التخطيط لنوعية الجمهور تحول لميزة إضافية على الأقل بالنسبة لتجربتي في ذلك اليوم، فرغم دخول أكثر من خمس مجموعات من فئات عمرية مختلفة، كان الذي حفزني على الكتابة وترك بصمة جميلة في مهرجان القراءة هو وجود هذه المرحلة العمرية التي حدثتكم عنها ..
ويظل السؤال قائما:
إلى أي حد نحن جادون في ابتكار برامج موجهة للطفولة تغذي عقولهم، وتعمل على تشكيل مناعتهم العقلية التي تحميهم من الانبهار بالمواد الإعلامية القادمة من الغرب؟!!